روائع مختارة | بنك الاستشارات | استشارات ثقافية وفكرية | أدب.. الاختــلاف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > بنك الاستشارات > استشارات ثقافية وفكرية > أدب.. الاختــلاف


  أدب.. الاختــلاف
     عدد مرات المشاهدة: 3150        عدد مرات الإرسال: 0

 من روائع التربية الإسلامية لطلاب العلم، والعلماء، أنهم يتربون منذ نعومة أظفارهم على أن الاختلاف في الرأي، والفهم، والتعبير، أمور لا تثير بين المختلفين أية مشاعر سلبية؛ فهم لا يسيؤون الظن أحدهم بالآخر.

ولا يجدون في أنفسهم ضغينة ولا حقدًا على المخالفين لهم؛ بل يشعرون نحوهم بمشاعر الأخوة الصادقة نفسها التي يجدونها نحو الموافقين لهم أو المسلِّمين بصواب آرائهم.

ولاشك أن هذا أثر من آثار التعليم النبوي الشريف الذي ربى عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه:»إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر«[رواه البخاري ومسلم، وعند الترمذي زيادة كلمة»واحد«].

وليس في الدنيا كلها مذهب أو دين سوى الإسلام يجعل للمخطئ أجرًا مادام مجتهدًا، ويجب أن نقول: ومؤهلًا لهذا الاجتهاد.

استحضرت ذلك كله عندما تلقيت عقب نشر مقالة الأسبوع الماضي (الطريق المسدود) الرسالة الآتي نصها من أخي الجليل، بل وأستاذي، العلامة الشيخ الدكتور محمد بن لطفي الصباغ:

أخي....

فإن مقتضى الأخوة والمحبة المناصحة، ولذا فإني أكتب إليكم هذه الكلمة وأنتم أوسع مني علمًا ومعرفة. لقد قلتم ـ يا أيها الأخ الحبيب ـ في مقالتكم "الطريق المسدود «ما يأتي: [... وإلغاء عقوبة الإعدام أو إبقاؤها مسألة فرعية لا يخرج أحد من المختلفين حولها عن الملة ولا ينتهك حرمة الدين، بل إن الإسلام فتح باب العفو عن الحق في القصـاص...].

يا أخي الحبيب:

الذي أرى أن القصاص في القتل ـ من وقبل ولي الأمر ـ من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، دلّت على وجوبه وإبقائه نصوص كثيرة من الكتاب والسنة؛ فمن ذلك قوله تعالى: )كُتب عليكم القصاص في القتلى[.

وقوله سبحانه:]ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قُتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورًا[، وقوله صلى الله عليه وسلم:»لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني.

والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة«[رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة]. وقوله صلى الله عليه وسلم»ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما يودى وإما يقاد«[رواه البخاري ومسلم].

وأنتم أدرى مني بالنصوص الواردة في ذلك. وقد أجمع المسلمون على أن حكم القاتل المتعمد في شرع الله أن يُقتل. فكيف لا يخرج عن الملة من قال: "يمنع قتل القاتل بحكم القانون"، واستحل هذا الكلام الباطل، وهذا مدلول إلغاء عقوبة الإعدام.

والفرق ـ يا أيها الأخ العزيز ـ كبير وظاهر جدًا بين إصدار تشريع بإلغاء هذه العقوبة وبين العفو من ولي المقتول؛ لأن الأمر الأخير حالة فردية جاء تقريرها في الشرع، أما الإلغاء فهو إبطال للحكم الشرعي القطعي المحكم غير المنسوخ. وأنا أستنكر الإقدام على القتل من قِبل الأفراد كما تستنكرون. ولكم تحياتي والسلام عليكم.}

وفي ذيل هذا الكلام النفيس تعليق من أستاذنا الجليل العلامة الشيخ عبد الرحمن الباني، نصه: {بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اتبعه وجاهد في سبيل الله إلى يوم الدين. وبعد فقد أطلعني أخي الكريم الدكتور محمد بن لطفي الصباغ ـ حفظه الله ـ على هذه الكلمة.

وإني أشاركه الرأي، وأحيي أخانا الحبيب الدكتور محمد سليم العوَّا، وأسأل الله أن ينفع بعلم كلٍ من الأخوين العزيزين وقلم كلٍ منهما، وأن يهدينا جميعًا إلى الصواب. والحمد لله رب العالمين}.

وفضل شيخييَّ الكريمين وعلمهما هو الذي حملهما على هذا التعقيب على ما كتبته تحت عنوان" الطريق مسدود؛ وصنيعهما هذا من تقاليد العلماء المسلمين الراسخة، فلهما عليَّ حق الاعتراف بالفضل، فقديمًا قيل»رحم الله امرًا أهدى إلىَّ عيوبي«وقال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ»ما ناظرت أحدًا إلا أحببت أن يظهر الله الحق على لسانه«.

وهذا هو دأب المخلصين الصالحين. وليس بيني وبين الشيخين الكريمين خلاف حقيقي في الرأي، وهذا الذي يشهد به رأيي المنشور في القصاص منذ أكثر من ثلاثين سنة في رسالتي عن فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي.

وقد طبعت خمس مرات في الولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ قريب من ربع قرن في الطبعة الأولى من كتابي: (في أصول النظام الجنائي الإسلامي ـ دار المعارف بمصر). وإنما الخلاف في حقيقته لفظي.

فإن عقوبة الإعدام المقررة اليوم في النظم الجنائية الوضعية ليست هي القصاص المقرر بنصوص القرآن والسنة، فليس فيها حق لولي الدم، ولا تتقرر عند سقوطها أو تعذر توقيعها الدية المنصوص عليها، ولا يتوقف تنفيذها على طلب أولياء القتيل أو عفوهم...إلخ الفروق البينة بينهما. فإبقاؤها ليس إبقاءً على حكم القصاص الإسلامي، وإلغاؤها ليس إلغاءً له.

ولاشك أن رأيي هذا قد يكون خطًا بقدر ما قد يكون صوابًا، ولكن المهم أنني والشيخين الجليلين نُدين القتل الذي يرتكبه بعض الناس باسم الإسلام، أو تنفيذًا لما يظنونه حكم الإسلام، ويهدرون بذلك العصمة الواجبة للمواطنين والمقيمين، كافة، بمزاعم فاسدة، ويقضون على سلطان الحكومات وهيبتها عندما يغتصبون سلطات التحقيق والقضاء والتنفيذ جميعًا.

* * * * *
(*) نشر في ذي القعدة 1423 هـ = يناير 2003

الكاتب: دكتور محمد سليم العوَّا

المصدر: موقع دكتور محمد سليم العوَّا